تباً ، كبرت مدينتنا الصغيرة ونحن مازلنا صغار !
نحن التائبون عن الخطى والباحثون عن الطريق، السائرون على الوجوه دون خف أو دليل !
تباً،
كبرت مدينتنا الصغيرة. حتى أبي – وهو أكبر شيء عرفته في عالم الأشياء
المحسوسة – لم يعد أطول من مدينتنا منذ أن ألبسوها إيوان العاصمة، كان أبي
أذا تأخر في الخارج أستطيع أن أتلصص عليه من أي شبابيك منزلنا ، وأعرف
بأنه حتماً سيعود من نفس الطريق ، كنت أعرف أيضاً أنه حتماً سيعود بغض
النظر عن وجهته دون حاجة أجبارة على اقتناء هاتف محمول ، فتواصلنا كله كان
يحدث عبر أجهزة لا تحتاج إلى شحن أو أبراج إرسال مثل "القلب "، ودون
الحاجة إلى إزعاج السلطات والمستشفيات في المنطقة بحثاً عنه لأنه لم يحمل
يوماً في جيبه بوصلة .
كان من الروتين الطبيعي جداً أن يعود أي أب
في الخارج آنذاك ، ولم أذكر يومها أن الروتين كان ممل ، أو أني وقفت يوماً
أقرع باب الأفق –كما يحدث اليوم- في محاولة جادة لرشوة الشمس أن ترحل بعد
ظهيرة تبدو في نظر طفل كرحلة حاج سيراً على الأقدام إلى مكة ، وكنت أعرف
بأنه لم يكن ثمة حاجة أن تنام وأنت تخبئ أي وصية تحت وسادتك فالله في كل
مكان ، كنت أعرف الكثير من الأشياء التي لم أعد أعرفها بعد الآن .
في
المدينة كانت أكثر القصائد حداثية دخولنا إلى المنزل عبر النافذة، وكانت
خطبة الجمعة هي الخطاب السياسي المفضل لدى أكثر ساكنيها ، فكنا نصلي جنباً
لجنب الشيعي منا والشافعي والحنبلي والمالكي ولو شاركنا الصلاة مسيحي لما
حدث أي تغيير أو فوضى وذلك لأن "البطاقة الشخصية" لم تكن عنصراً ضروري في
نظرنا كانت الوجوه هي الهوية الوحيدة التي نعترف بها بخلاف " نقاط
التفتيش" ومؤسسات الخدمة المدنية الآن .
لم يكن أي شخص يشتري "
بدلاته الرسمية " من الخارج ، فالناس لا تهتم ماذا تملك أو من هو والدك،
كانت الاهتمامات تقتصر على " أنت " فقط ، دون أدنى اكتراث بالصفات أو
الرتب التي تتبع ذاك الضمير،ولهذا كنت أحب جميع الناس بغض النظر عن مديري
في العمل أو صاحب البقالة الذي ينتظر على أحر من الفقد حساب فواتيره
المتكدسة ، وكنت أكلم كل الناس فلم يوجد في تلك الأيام " أي غرباء "
لتحذرني أمي من الكلام معهم ، كنا بيت واحد يتقاسم أهله الأمطار بالتساوي
والضوء بالتساوي فلم تولد بعد فكرة خصخصة الشمس أو صنع عدادات التنفس
لحساب كم من الأكسجين يستهلك هذا الكائن .
الحياة في صورتها
الفطرية هي – تكرار لهبوط آدم – فخروجك إلى هذا الوجود هو طردك من الجنة
العدم، وهبوطك على سطح هذا الكوكب يعيد دورة الحياة كما يحدث في الغابة
تماماً ، فكانت القوة وقتها تقاس بين الفصائل والأجناس لا حسب الأحزاب
والمبادئ ، ولهذا كنا نشبه الغابة في طبيعتنا وفصولنا وسلوكنا وكنا نطبق
قانون الطبيعة الفطري ، البقاء للأقوى كان محصوراً بيننا والأجناس الأخرى
فلم يكن الكلب اليهودي أغلى من الإنسان المسلم، كانت الإنسانية مقدسة
فتطغى على كل الخلافات الهامشية التي حولت الحياة الآن إلى نسيج " شاذ في
الوجود " فلم تذكر الطبيعة أن الأسد يفترس أخوه الأسد ولا الذئب يفترس
أخوه الذئب كما يحدث اليوم ، وفي أسوأ نماذج الطبيعة كانت الخنازير تأكل
موتاهم وربما هذا اعتقاد سائد لديهم بأن أكل الخنزير أكرم من دفنه ،
ولكننا نأكل أحياءنا وأمواتنا ، لا يوجد شيء في هذا العالم في نظر الإنسان
لا يصلح للأكل !
ومنذ قطفت المدينة ثمار بلوغها ، وبدأت أثداء
مدينتنا بضخ النفط والدم تحت مفهوم التمدن لم يعد أبي من أي الجهات ، وصار
وحش المدينة يؤرق كل أم وهو يطارد براءتنا في الأزقة كقاتل تسلسي ، واحترف
رجال مدينتنا تأثيث أنوثتهم ، وسُجنت فطرتنا البدوية في مصباح لا يعرف وجه
علاء الدين بتهمة زعزعة استقرار الفتنة ، وتم تجنيد الإسفلت لقتل خطانا
وتدجيج سماء صبانا بعواصف رعدية ، ومنبر مسجد حارتنا – يا الله - يعمل
"دبابة "طيلة أيام الأسبوع فكيف نصدقه يوم الجمعة ؟ وهل مازال هناك شيء
يجمعنا غير كأس العالم ؟ عفواً فحتى الرياضة سخرناها للحرب فأين سأبحث
بيني ومليار أجير عن قاسم مشترك واحد ؟
لا أعلم يا وجه أبي أين
أنجوا بسنابل أخوتي اليانعة في بلد التطفيف ووطن القار ؟ أي قناة ستبث
مساءاً صوت دعاء الفلاحين ؟ وأي كريم سيثق فيني ليسلفني خفيّ حنين ؟ فوجهي
لا يقوى أن يداس به على أشواك أخرى ، في كل مساء تمنحني أمي أقداماً لكن
لا تقوى أن تخطوا على ظهر الصبح المجلود وعينايّ ما عاد بها متسع لموضع
دبوس أخر، هل أخطف طائرة الأحلام أبي إلى مدينة عاشت في الماضي أم أتمركز
قرب سفارة خيبتنا كلغم ليدوس عليه أحد الفارين !
منقول بواسطة قلم شيئ الساخر !