أن ما يشهده العالم اليوم من تطورات مهمة ومستجدات عديدة خاصة في مجالات حرية التجارة العالمية والمنافسة الاقتصادية وفي نظم المعلومات والاتصالات وفي مجالات الصناعة والطاقة المتجددة ومصادرها البديلة والقفزات المتحققة في مجالات الاستثمار بكل جوانبه والتنوع الواسع في منتجات العديد من دول العالم التي حققت نجاحات في اقتصاداتها أثر التحول في فلسفتها الاقتصادية
نحو اقتصاد السوق كل ذلك يدفعنا الى القول ما اشبه اقتصاد عراق الامس باليوم حيث السمة التقليدية لا تزال الغالبة (ألا وهي أحادية الجانب) ومنذ عقود خلت ولم تتغير تلك السمة بل ترسخت.
الايرادات النفطية ما تزال شريان الحياة الاقتصادية ونقطة ارتكاز الانفاق العام وجعله محركا رئيساً للنشاط الاقتصادي. أن هذه التبعية بكل ما هي عليه عززت من انكشاف الاقتصاد العراقي وحملته آثارا خطيرة في ظل تأثر ذلك المورد بالتغيرات في اسواق النفط العالمية وما يرتبط به من تطورات اقتصادية خارجية لا يمكن لواضعي السياسات الاقتصادية المحلية التحكم بها. أن الاقتصاد العراقي لم يخرج بعد من استمرارية اعتماد ايرادات الموازنة على حصيلة صادرات النفط الخام ولذا فأن استمرارية الاختلال الهيكلي للاقتصاد العراقي قائمة وتكريس الطابع الريعي واقع حال.. وبالمحصلة فأن الاقتصاد العراقي في توجهاته وتطوراته هو دالة لحجم صادرات النفط التي تتسم بعدم استقرارها وتذبذبها وبالتالي انعكاسها على مجريات الاقتصاد وحاضر ومستقبل المجتمع. أن موضوع الاعتمادية والاتكالية على مورد احادي غير مستقر وعرضه للنضوب هو امر يستحق التوقف عنده ومراجعته في ظل ما يمكن أن يواجه الاقتصاد من تحديات وطبقاً لذلك يمكن القول هنا بأنه لا يمكن أن يتطور الاقتصاد العراقي وهو مرهون بعوائد غير مستقرة وفي تبعية مطلقة للمورد المذكور وأن تتجه تلك الايرادات وضمن الموازنة العامة الى تحويل النسبة الغالبة من النفقات الجارية على حساب الاستثمارية. ان اعادة النظر بالوضع الحالي لأهم وأخطر مؤشر لتقدم او تأخر الاقتصاد تعني اعادة النظر بواقع البنى القطاعية والبنية التحتية وتوجهات الاستثمار وواقع القطاع الخاص... وان تلك الاعادة من شانها أذا وضعت وفق دراسة ستراتيجية تفصيلية ومحددة أن تدعم العملية السياسية والدستورية للبلاد فالبحث عن اطار عمل لتوظيف جانب مهم من ايرادات النفط في تنويع بيئة الاقتصاد العراقي قطاعيا وفي تنمية الموارد البشرية وتقديم الخدمات واعادة بناء البنى التحتية لقطاعات الكهرباء والنقل والاعمار وفي عملية توزيع محسوبة لتلك العوائد على المحافظات العراقية وحسب كثافتها السكانية من شأنها أن تعزز من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ومن هنا فأن الضرورة تفرض نفسها لايجاد مخرج للأزمة من خلال استغلال العوائد استغلالا امثل في ترسيخها للنهوض بواقع الاقتصاد من خلال التكامل بين قطاع النفط وباقي القطاعات الاقتصادية عبر تنويع توجيه عوائد النفط وحسب أولويات قطاعية وبالشكل الذي يعزز من مكانة الاقتصاد حينما يصار الى رفع نسبة مساهمة القطاعات الاقتصادية الانتاجية الحقيقية الى انتاج المحلي الاجمالي والحد من الاختلالات الهيكلية التي تفاقمت حدتها بمرور الوقت واعادة النظر بجوانب الانتاج . وهنا يتوارد السؤال كيف وعن اي طريق يمكن لهذا الاقتصاد ان يتنوع وهو يعاني من تلك الاحادية والتبعية قد يكون جانبا من الجواب يرى في ان توجيه المورد الناضب نحو انشاء قاعدة زراعية صناعية تضمن تنويع مصادر الانتاج وتحقيق استمرار نمو اقتصادي للناتج المحلي الاجمالي بوتائر اعلى هي السبيل الاسلم.
ومن ناحية اخرى فأن ذلك التنوع بين ان التوجه نحو اعادة البناء الداخلي للبلد سيكسبه قدرة على رفع مستويات الانتاج ويخلق له مزايا اضافية تنوع من هيكل الصادرات وترفع من قدرة الاقتصاد على تحقيق ايرادات اضافية بالعملة الاجنبية وتحقيق مصادر اكثر تنوعا واستقرارا.
وعليه فأن تبني مجموعة من الخطط والبرامج الاستثمارية لانشاء مجموعة من المشاريع الستراتيجية بجدوى اقتصادية يمكن لها ان ترسخ بيئة اقتصادية واجتماعية مستقرة كما ان التحول في الفلسفة الاقتصادية يحتاج الى اشراك كل عناصر ومقومات انجاح المشروع الاصلاحي المفترض اعتماده وعبر احاطة شاملة كلية لمواطن الضعف والقوة للاقتصاد العراقي وعبر تفعيل دور القطاع الخاص والعام وضمن مبدأ الشفافية والمحاسبة من حيث ان توظيف تلك العوائد هو قرار على مستوى عال يدفع باتجاه تعزيز مكانة الاقتصاد العراقي بين الدول .
وانسجاما مع ما سبق يمكن القول في ظل حقيقة ان مورد النفط هو ناضب فأن العديد من المشاكل قد تواجه الاقتصاد في المستقبل اذا استمرت الاتكالية ومن الضروري أن يصبح الحديث عن استثمار تلك الايرادات في تأسيس اقتصاد قوي قائم على الصناعات المنتجة غير المعتمدة على ايرادات النفط واستغلال تلك الايرادات في بناء استثمارات قوية تؤسس لاقتصاد قادر على الصمود والاستمرار على الرغم من تذبذب العوائد او تراجعها وقد تكون الافاق القادمة اكثر اشراقاً في المسار الاقتصادي اذا ما اعتمدنا الاسس التالية لبناء اقتصاد رصين ومتنوع .
ـ ضرورة البحث عن مصادر اخرى مدرة للدخل والارباح غير نفطية.
ـ استخدام جانب من ايرادات النفط المصدر في مشاريع استثمارية من شأنها ان تحقق زيادة في المعروض السلعي والخدمي وتسهم من جانب اخر في تعزيز ما ورد اعلاه .
ـ تشجيع الاستثمار الاجنبي المنتج لما يحتاجه الاقتصاد العراقي من سلع وخدمات.
ـ تعزيز دور القطاعات الانتاجية في توليد الانتاج وتنويع مصادر هيكل الميزان التجاري باتجاه توسيع المحتوى التصديري وتقليص المحتوى الاقتصادي .
ـ ضرورة خلق حالة من التوافق بين سياسات المالية العامة مع اهداف تحرير الاقتصاد وقيامه على دعائم المنافسة وتشجيع دور القطاع الخاص في شتى المجالات بما يسهم في برمجة الايرادات العامة نحو تعزيز وترسيخ عملية بناء استثمارات قوية تؤسس لاقتصاد قائم على الصمود والاستمرار على الرغم من تذبذب العوائد او تراجعها.
وبذلك فأننا نكون قد غيرنا مسار الاقتصاد نحو افق جديد لايتفق وما يمكن ان تعكسه من ايحاءات مقولة الفيلسوف اليوناني هيرودوت حينما زار مصر وقال: مصر هبة النيل حيث ان استمرار ازدهار مصر مرتبط بدوام تدفق المياه من منابع نهر النيل في الوقت الذي تنطبق تلك المقولة الى حد كبير على العراق في ظل حقيقة ان النفط الشريان الرئيس الوحيد لاستمرار الحياة في الاقتصاد وبذا فأننا ندعو الى ان لايكون العراق هبة النفط تلك الثروة الحيوية الناخبة وغير المستقرة التي يرتبط بها مصير اجيال حالية وقادمة.
</SPAN>
